سورة الحج - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)} [الحج: 22/ 42- 48].
قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ}: هذه آية إيناس للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ووعيد لقريش، فهم كالأمم المكذّبة المعذّبة. والمعنى: إن يكذبك أيها النبي قوم قريش، فهذا له سابقة تاريخية، لقد كذبت قبلهم أقوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم إبراهيم ولوط، وأصحاب مدين قوم شعيب، وجماعة الأقباط الذين أرسل إليهم موسى، بما معه من الآيات البينة والدلائل الواضحة، فأخرت العذاب عن أولئك الكافرين، إلى وقت معلوم عندي (عند الله) ثم أخذتهم بالعذاب الشديد وأهلكتهم، فانظر كيف كان إنكاري عليهم، بتدميرهم وعقابي لهم، وقوله سبحانه {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ} بإسناد فعل بعلامة التأنيث، لأنه سبحانه أراد بالقوم: الأمة والقبيلة.
والعبرة من الإخبار بهذا: الإنذار لقريش بأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله.
وأسباب الإهلاك: هو ما أخبر به الله سبحانه، فكم من قرية أهلكها الله، وهي ظالمة، أي مكذبة رسلها، والمراد أهل القرية، والظالمة: معناه: الظلم بالكفر، وبالإهلاك تصبح ديار القرية ساقطة حيطانها على سقوفها، وتتعطل مرافقها وآبار مياهها المنتفع بها، وتتهدم قصورها المشيدة، أي المبنية بالشّيد: وهو الجصّ.
ثم أثار الله في القرشيين نوازع الفكر والتأمل، وحثهم على النظر والتفكر، فهلا سافروا وتنقلوا في البلاد، فيتأملوا بما حدث من مصارع القوم، ويفكروا بعقولهم في الأسباب والنتائج، ويسمعوا الأخبار بآذانهم، ليطّلعوا على الحقائق، ويدركوا الأسرار، فيتعطوا بما شاهدوا، ويقلعوا عما هم فيه من الشرك وتكذيب الرسول، ولكنهم مع الأسف لم يفكروا، ولم يعتبروا ولم ينظروا، لا بسبب عمى البصر، ولكن بسبب عمى البصيرة، فإن أبصارهم سليمة، ولكنهم عطلوا قدراتهم الفكرية وعقولهم الواعية، فلم يدركوا حقائق الأمور، ولم يتعمقوا في فهم الأحداث. ذكر الرازي في تفسيره: أن الآية تدل على أن العقل هو العلم، وأن محل العلم هو القلب، أي أداة الوعي.
ويتعجل القرشيون إيقاع العذاب الذي تنذرهم به أيها الرسول، فليطمئنوا فإن العذاب آت لا محالة، وإن الله لا يخلف وعده الذي أوعدهم به، وهو مجيء القيامة، والانتقام من أعدائه.
وحلم الله واسع، فهو حليم لا يعجل، ومن حلمه: أن يوما واحدا عند الله كألف سنة مما تعدون، أي إن يوما من أيام العذاب الأخروي بمثابة ألف يوم من أيام الدنيا، لشدة عذابه وطول مقامه، فأين هم من عذاب ربك؟! وكثيرا من القرى، أي أهلها أمهلها الله، وأخر عنها العذاب والهلاك، مع أنها قائمة على الظلم، مستمرة على الكفر والعصيان، فاغتروا بذلك التأخير، ثم أخذها الله فأنزل العذاب بأهلها، ثم كان المرجع النهائي إلى الله، فيكون تأخير العذاب من قبيل الإمهال لا الإهمال.
تعيين مهمة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم:
إن مجيء الرسل للأمم والشعوب رحمة وفضل، وإن إيضاح مهامهم أمر طبيعي، ليدرك الناس السر والمنفعة العائدة عليهم من بعثة الرسل وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، بعثه ربه إلى الخلائق للإنذار والتخويف، والتبشير والترغيب، فاستهزاء قومه به لا يمنعه من أداء مهمته، ولا من القيام بواجبه، فهو رحمة للعالمين، وبشرى للمحسنين، وإنقاذ للعتاة الظالمين، فمن وعى الكلام واعتبر نجا، ومن أقفل عقله ولم يتعظ هلك وضل، قال الله تعالى مبينا ومحددا مهمة النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم:


{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)} [الحج: 22/ 49- 51].
إن استعجل القرشيون المكيون عذاب الله، فقل لهم يا محمد: إنما أنا لكم نذير من عذاب الله، أي مجرد منذر ومحذر واضح المقصد، ليس لي أن أعجل عذابا، ولا أن أؤخّره عن وقته، أرسلني الله إليكم لأحذركم من الوقوع في العذاب الشديد، وليس إلي من حسابكم شيء، بل أمركم إلى الله: إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخّره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وهو سبحانه الفعال لما يريد ويختار، ومهمتي كما تتضمن الإنذار والتخويف، تتضمن التبشير بالجنة والترغيب، لفتح باب الأمل أمام المقصرين، وتدارك أخطاء الماضي، وعلاج الأحداث. فالناس صنفان: صنف المؤمنين، وصنف الكافرين.
أما الصنف الأول: فهم الذين صدقت قلوبهم بوجود الله وتوحيده، وصدقوا الرسول وما أنزل عليه من الكتاب، وآمنوا بالملائكة واليوم الآخر، وقرنوا بإيمانهم أعمالهم الصالحة من أداء الفرائض، والتقرب بالقربات، وإحسان القول والفعل، وهؤلاء يغفر الله لهم سيئاتهم، ويثيبهم على عملهم الصالح، ويرزقهم رزقا حسنا في الدنيا، ورزقا كريما في الآخرة وهو الجنة التي وصفها تعالى بقوله: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ} [الزخرف: 43/ 71] وأيد ذلك وصف الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لها بما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
ووصف الرزق بالكريم: «رزق كريم» لنفي المذام، كما تقول: ثوب كريم، ومنزل كريم.
وأما الصنف الثاني: فهم الذين كفروا بربهم وبآياته المنزلة في قرآنه، وكانوا معاجزين، مجاهدين في إبطال آيات الله، وردّ دعوة الدين والتكذيب بها، وثبّطوا الناس عن متابعة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ظنا منهم أنهم يعجزون ربهم، ويتفلتون من أمره، وأن ربهم لا يقدر عليهم، وهم في الواقع أهل النار الشديدة الإحراق، الكريهة العذاب والنكال، المقيمون فيها على الدوام، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 16/ 88].
وقوله تعالى: {سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ} معناه: تحيلوا وكادوا، من السعاية.
والآيات: آيات القرآن الكريم، أي كادوا بالتكذيب وسائر أقوالهم. والمعاجزين: الظانين أنهم يغلبون الله تعالى. وقوله سبحانه: {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ}: أي هم الكفرة لا غيرهم أهل النار، وشبّههم بالصاحب المالك: من حيث الدوام على العذاب في نيران الجحيم.
إن هذه الموازنة الدقيقة بين الصنفين في دار الدنيا قبل مجيء الآخرة تقتضي من العقلاء الحريصين على مصالحهم ونجاتهم أن يفكروا مليا في الأمر، قبل صدمة المفاجآت، وانقسام الناس قسمين: أبرار أخيار في الجنان، وفجار فساق كفار في النيران.
صيانة الوحي عن الشياطين:
قصة الغرانيق:
لا يمكن أن يقبل عقل أو يصدق إنسان، بتدخل الشياطين في الوحي الإلهي، لأن الله القادر على كل شيء يمحق كل إفك، ويحجب كل افتراء، ولو جاز شيء من هذا، لارتفع الأمان عن شرع الله، وبطلت الأحكام والشرائع، إذ لا فرق في العقل بين نقصان الوحي أو زيادته، أو تشوية معالمه، وهذا يبطل ما يسمى بقصة الغرانيق أي الأصنام، التي زعم الوثنيون أن النبي محمدا أشاد بها في القرآن فقال: «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهم لترتجى». وهذه آيات كريمة تميط اللثام عن إفك هذه القصة المكذوبة المفتراة.


{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} [الحج: 22/ 52- 54].
إن قصة الغرانيق (الأصنام) موضوعة مكذوبة، وضعها الزنادقة، وهذه الآيات تبطل إفك الأفاكين، ومعناها: وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا تمنى، أي قرأ، ومعناها المشهور: أراد وأحب، فإذا رغب الرسول مقاربة قومه واتباعهم له، وجد الشيطان السبيل، فألقى في أوهام المشركين أن محمدا قال في سورة النجم في مسجد مكة بعد آية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)} [النجم: 53/ 19- 20]. قال: «تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» فقال الكفار: هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد، وفرحوا بذلك، فلما انتهى في آخر النجم إلى السجدة، سجد الناس أجمعون إلا أمية بن خلف، فإنه أخذ قبضة من تراب، فرفعها إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، إن ما وسوس به الشيطان من مثل هذه الأباطيل والكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار، يزيله الله، ثم يجعل آياته محكمة محصنة، مثبّتة، لا تقبل التشويه والتزييف، أو الزيادة والنقصان، والله عليم بكل شيء، وبما أوحى إلى نبيه، حكيم في تقديره وخلقه، وأمره وأفعاله، له الحكمة التامة، والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين.
ليجعل الله ما يوسوس به الشيطان فتنة، أي ابتلاء واختبارا للمنافقين الذين في قلوبهم شك وشرك ونفاق، وللمشركين واليهود المعاندين وقساة القلوب، حين فرحوا بوساوس الشيطان، وظنوا أنه صحيح، وهو محض وسواس الشيطان. وقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ} اللام متعلقة بقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} والفتنة: الامتحان والاختبار.
{ولِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم عامة الكفار، و{وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فئة خاصة كأبي جهل، والنضر بن الحارث، وعتبة، وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم لفي شقاق بعيد، أي في بعد عن الخير، وضلال، و«بعيد» معناه أنه انتهى بهم إلى نهاية الانحراف، وتعمّق الضلال فيهم، فأصبحت رجعتهم منه إلى الحق غير مرجوة.
وهذا الإبطال لوساوس الشيطان، لكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله وهم أصحاب النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم: أن ما أوحيناه إليك أيها النبي هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وصانه من اختلاط غيره به، فيصدقوا بالله تعالى، وينقادوا له، فتخبت له قلوبهم، أي تتطامن وتخضع وتخشع له نفوسهم، وتعمل بأحكامه وشرائعه وآدابه.
وإن الله تعالى لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم، في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، بتأويل المتشابه تأويلا سليما، وتفصيل المجمل تفصيلا واضحا. ثم في الآخرة يهديهم ربهم إلى الطريق القويم الموصل إلى جنان الخلد، ونعيم المصير.
قال القاضي عياض في كتاب الشفاء: لقد أجمعت الأمة على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فيما يبلغه عن ربه، معصوم من الإخبار عن شيء، بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا، ولا سهوا ولا غلطا.
شك الكفار في القرآن:
ما دام الكفر وسوء الاعتقاد في القلب، يظل الشك في أصول الإيمان وتنزيل القرآن قائما في نفوس الكفرة، ومن الصعب اقتلاع الشكوك من نفوس أناس أدمنوا على الضلال، واستمروا في العصيان، فإن ذلك يوجد ما يسمى «الران» أو الغطاء على القلب، فيحجب عنه كل أشعة الخير، وأضواء الهداية الربانية، وهكذا يظل الظلام الدامس جاثما في المكان حتى يبدده ضوء النهار، فإذا أحكم الإنسان إغلاق المنافذ، وحرص على إبقاء التعتيم، أمكنه ذلك، وهذا هو الفعل ذاته الذي يفعله الكافر الجاحد في قلبه، يحكم إغلاقه، ولا يدع شيئا مضيئا ينفذ إليه، وهذه هي حال عتاة الكفار من أهل مكة وأمثالهم، كما تصوّر هذه الآيات:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8